أخبار وطنية عصام الدردوري يقدّم قراءة تحليلية في الفيديو الذي تمّ تنزيله من قبل الجماعات الإرهابية
بقلم: عصام الدردوري
1- لابدّ في بادئ الأمر من التحذير من مغبّة السقوط في فخّ تداول ونشر هذا الفيديو حيث أنّ ترويجه يدخل في إطار الدعاية المجانية المقدّمة للجماعات الإرهابية وهو بمثابة الخدمة الإعلامية التي تسدى إلى هؤلاء الساعين لزرع الخوف وإشاعة الرهبة والترهيب وهي هدف في حدّ ذاتها من إنزال هذا الفيديو.
2- كان بإمكان المجموعة الإرهابية التي ظهرت بالفيديو لتتوعّد وتعلن تبنّيها الصريح للاغتيالات مخاطبة الرأي العام عبر بيان مثلما جرت العادة بالنسبة لأعتى التنظيمات الإرهابية العالمية على غرار تنظيم القاعدة ولكن الاختيار على الظهور في مقطع فيديو مصوّر بحرفية وبإخراج محكم هو أمر متعمّد وهو يهدف أساسا إلى الاستفادة من الحاضنة الافتراضية لهذه الجماعات وسعيها إلى التأثير معتمدة الخطاب والصورة لضمان تمرير رسالتهم أكثر ما يمكن في مسعى لمزيد الاستقطاب والتحفيز على حمل السلاح من جهة والدعوة للجهاد والترهيب والتخويف من جهة ثانية والرسالة موجّهة بدرجة أولى في اعتقادي إلى الفئة العمرية الشبابية المهووسة بالإبحار على النات وشبكات التواصل الاجتماعي وخاصّة منها الشريحة التلمذية التي تعتبر لقمة سائغة سهلة المنال بالنسبة إلى هؤلاء.
3- تنزيل الفيديو من حيث التوقيت يحمل أكثر من دلالة حيث أنّه تزامن مع بداية العدّ التنازلي للاستحقاق في طوره النهائي وبالتالي فالمخاطِب الإرهابي يسعى إلى إثناء المواطنين عن ممارسة حقّهم الانتخابي وهو ما تجلّى في كلام الإرهابي أبو مصعب الذي ذهب إلى اعتبار الانتخابات من علامات الكفر داعيا إلى مقاطعتها متوعّدا ببئس المصير في الحياة الدنيا وفي الآخرة للمقبلين على صندوق الاقتراع وهي تعدّ طريقة ذكيّة للتأثير على الناخب معنويا في ظلّ فشل هؤلاء في تنفيذ عمليات إرهابية تحسم لصالحهم جولة هامّة في هذه المعركة وتمكّنهم من إفساد الانتقال الديمقراطي في تونس وهو ما يبدو واضحا من خلال التأكيد على هذه المسألة بدقّة في التسجيل كما تزامنت إذاعة الفيديو زمنيا أيضا مع إعلان لجنة الدفاع عن قضية الشهيد محمد البراهمي اعتزامها عقد ندوة صحفية لتقديم معطيات خطيرة وجديدة في علاقة بجريمة الاغتيال والأطراف التي دعمت منفّذيها وهيّأت لهم الأرضية وهو ما يمكن أن يفسّر على أساس أنّ الطرف المخطّط والمدعّم والراعي لعمليات الاغتيال السياسية على اتّصال دائم ومتواصل بالضاغطين على الزناد ولازال سيّد الموقف يأتمرون بإمرته ولعلّه من دفعهم إلى القيام بعملية دعائيّة استباقية تحمل إعلانا صريحا عن تبنّي الجريمة وبالتالي التقليل من أهميّة ما يمكن أن يُكشف من خلال الندوة إن لم نقل تمييعه أصلا وقد تمّ تنزيل الفيديو قبيل يوم من عقد الندوة كما تزامن تنزيل الفيديو مع اقتراب رأس السنة الميلادية وبالتالي فالتهديدات تبقى مفتوحة ولا يمكن حصرها في زمن معيّن.
4- وقع التركيز في إخراج الفيديو على توظيف مجموعة من الصور لشخصيات سياسية وصور لجرحى الواجب الوطني وهذا يدلّ على مدى دهاء العناصر الإرهابية في شقّها المكلّف بالتسويق لعملياتهم ورسائلهم المشفّرة إعلاميا ويمكن أن يفسّر وضع صور الشخصيات السياسية ومن بينها من اتّهم بالوقوف وراء جرائم الاغتيال بأنّه رسالة مضمونة الوصول في علاقة بالمشهد السياسي الذي هو بصدد التشكّل وفي مقدّمته حركة نداء تونس وحركة النهضة ويمكن أن تكون الصور المعروضة هي بمثابة الأهداف التي تمّ إعطاء الضوء الأخضر لاستهدافها في إطار رسائل مشفّرة.
5- الإعلان عن تبنّي عملية اغتيال الشهيدين البراهمي وبلعيد من طرف أبو بكر الحكيم الذي ظهر تحت كنية أبو قتادة ليس بالصدفة وأرجّح أنّه اختيار مدروس وفيه مجاراة للتحوّل الذي تشهده الخارطة السياسية في تونس ويمكن أن يندرج الفيديو في إطار توجيه الرأي العام وحصر الجريمة في منفّذها كما تسعى إلى ذلك بعض الأطراف وإلا لما كان انتظر كلّ هذه الفترة ليعلن تبنّيه لعملية الاغتيال.
6- التصريحات الواردة أكّدت صراحة على رفض هذه الجماعات الدموية لمفهوم الدولة المدنية ورفضها الاحتكام إلى قوانينها الوضعية وإصرارها الجامح على تكريس الشريعة وإعلان دولة الخلافة ورفع رايتها وهو ما يؤكّد أنّ المواجهة ستكون على المدى الطويل وفق تأكيدات الإرهابيين أنفسهم في التسجيل.
7- كباقي الخطابات المتعارف عليها في تقاليد التنظيمات الجهادية وقادتها لم تحد العناصر المخاطِبة عن توخّي أسلوب الترغيب والترهيب في الحثّ على حمل السلاح والفوز بالشهادة ونيل سعادتها والتركيز على التوعّد بإراقة دماء من لم يتّبع خطاهم لغاية التأثير النفسي على مشاهدي الفيديو.
8- الخطاب أيضا وجّه إلى المشايخ والأئمة المعتدلين والرافضين لما يعرف بالجهاد شرعا وفق ما يراه التكفيريون في عقيدتهم الدموية حيث وُصفوا بعلماء السلاطين وهو ما يدلّ على أنّ خطاب الاعتدال وقيم الإسلام السمحة التي استؤنف العمل على نشرها وإذاعتها بمجرّد استرجاع أغلب المساجد والجوامع مثّل هزيمة كبرى للإرهابيين وضربهم في الجانب اللوجستي خاصّة على مستوى التجنيد وتخدير العقول وشحنها بالأفكار الظلامية.
9- التأكيد على وجوب الجهاد شرعا وتحريف مفهوم الشهادة وتوظيف بعض الأحاديث النبوية ومقولات الصحابة ومواقفهم في غير سياقها يندرج في خانة السعي إلى التأثير على الآخر والإيهام والمغالطة كما أنّ التذكير والإطناب في استعراض جملة الإيقافات التي طالت عناصر إرهابية منهم يدخل في إطار محاولة الظهور في ثوب الضحية وبالتالي السعي إلى تحريك مشاعر التونسيين وكسب تعاطف المستمع أو المتفرّج كما بلغ الأمر بهؤلاء حدّ السعي إلى إشعار الرجل بالخجل والتونسيين عموما بالحياء مع التذكير بحمل النساء للسلاح في محاولة للعب على الميز الجنسي بين الذكر والأنثى.
10- أحد العناصر وهو الملقّب بأبي محمد التونسي بدا متشنّجا مطنبا في التوعّد معتمدا على كثرة الحركة والإشارة إلى التهديد بالذبح وشرب الدماء ورفع السلاح والتأكيد على ذلك بتكرار القسم في حين ظهرت العناصر المصاحبة في حالة من الهدوء وهو ما يؤكّد على تقاسم مدروس في الأدوار لتمرير الرسائل المشفّرة والمعلنة وإمكانية أن يكونوا قد أعادوا تصوير الفيديو عديد المرّات قبل نشره وذلك لضمان تمرير أكثر ما يمكن من الرسائل التي يرومون تبليغها.
11- المكنّى بأبي مقاتل نعت القوات المسلّحة بالجبن للنيل من معنوياتهم لكن تأكيده على ذلك كشف عن اعتراف ضمني منه بمدى شجاعة من يواجهه كما أنّ ذكره لعبارة حدّثنا عنكم الإخوة ليس أمرا عفويا وإنما هو تأكيد على أنّ قنوات الاتّصال والتواصل ممتدّة بين العناصر المتمركزة بالجبال وباقي التنظيمات والقيادات وهو تأكيد على أنّ العناصر الإرهابية المتمركزة بالجبال التونسية ليست في عزلة عن باقي المجموعات الإرهابية.
12- أبو بكر الحكيم وجّه نداءً للتونسيين بأن يهبّوا لنصرة من وصفهم بالإخوة والالتحاق بهم في الجبال وهو أقرب إلى نداء استغاثة وعويل واستجداء منه إلى طلب الإمداد كما أنّه تأكيد على عدم توفّر الحاضنة الشعبية لهؤلاء المرتزقة واصطدامهم برفض عميق لمشروعهم الظلامي من طرف التونسيين.
13- أبو بكر الحكيم أكّد على تواجده في جبال تونس مستعملا عبارة "لقد عشت معهم" في صيغة الماضي أي أنّه حاليا خارج التراب التونسي إلى جانب أمير تنظيم داعش أبو بكر البغدادي وهذا يمكن أن يكون من باب التضليل أو المغالطة وهو يدرك حجم الملاحقة الأمنية التي تطاله.
14- الفيديو تضمّن أيضا دعوة أبو بكر الحكيم الشخصية الهادئة في الفيديو إخوته في تونس وخاصّة العناصر المتحصّنة بالجبال إلى مبايعة أمير الدولة الإسلامية بالعراق والشام وهو وإن يكشف عن إمكانية وجود انقسامات داخل التنظيمات الإرهابية وتشتتها فإنه يمكن أيضا أن يتنزّل في إطار درء الشبهات على ما يشهده الفكر الداعشي من تطوّر وانتشار على الحدود التونسية وبالتالي التركيز على عنصر المباغتة حيث تمّ إيقاف عناصر من طرف الأمن التونسي أعلنت عن تبنّيها للفكر الداعشي ومبايعة أمير هذا التنظيم.
15- ذكر الحكيم أسماء قيادات إرهابية لقيت مصرعها وعدّدهم بالأسماء على غرار الإرهابيين كمال القضقاضي ولطفي الزين وهو يكشف عن اعتراف بحجم الخسارة التي لحقتهم كتنظيم إرهابي بفقدانهم لهذه العناصر الفاعلة وتأثّر عملياتهم ومخطّطاتهم بذلك كما يحيل الاستشهاد بهذه العناصر في سياق التسجيل على ثقلهم الجهادي رغم حداثة تبنّيهم للعقيدة الجهادية واعتبرهم نماذج وشخصيات رمزية وجب اتّباعها داعيا بذلك إلى ما أسماه بإحياء سنّة الاغتيال بتونس ولعلّه يوحي بذلك إلى بعض الخلايا والعناصر المتأهّبة بأن تتحرّك لتنفيذ اغتيالات وتكوين مجموعات لذلك تحت مسمّى شخصيات إرهابية ذات طابع رمزي بالنسبة إليهم مؤكّدا على اعتزامهم مواصلة تنفيذ الاغتيالات.
16- خروج أسماء إرهابية للتوجّه برسالة إلى الرأي العام وهي التي عرفت في المخيال الشعبي على أساس أنها قيادات يعدّ نقلة نوعية قد تكشف على أنّ الإرهابيين يشعرون بالاختناق وتعمّق عزلتهم وبالتالي مرّوا إلى استجداء العطف والظهور في ثوب أسياد الموقف ومحاولة تحويل الضعف إلى قوّة.
17- أبو بكر الحكيم استحضر أسماء العناصر التي ضمّها ملفّ الاغتيالات كأطراف متّهمة وكأنّه يشير إلى أنهم من يتحمّلون المسؤولية في ما اقترفت أيديهم دون الخوض في أسباب ارتكاب تلك الجرائم وهي نقطة محورية تعمّد هذا الأخير تغييبها.
18- على كلّ الفيديو المنزّل قطع الطريق أمام المشكّكين في وجود الإرهاب كواقع يتربّص بالدولة ويهدف إلى العصف باستقرار الوطن ولعلّه يكون ناقوس خطر قد يضع الكثيرين أمام الأمر الواقع للبحث عن حلول جذرية وعميقة في إطار مقاربة شاملة لوضع حدّ لاستفحال هذه الورم السرطاني الخبيث وستبقى تونس الاعتدال والتسامح عصيّة على المتأسلمين والمتاجرين والمرتزقة الظلاميين.
رئيس المنظّمة التونسية للأمن والمواطن: عصام الدردوري